سورة غافر - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{حم} وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد، وبني الفتح والكسر: مدني، وغيرهم بالتفخيم، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم {تَنزِيلُ الكتاب} أي هذا تنزيل الكتاب {مِنَ الله العزيز} أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول: {العليم} بمن صدق به وكذب، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين {غَافِرِ الذنب} ساتر ذنب المؤمنين {وَقَابِلِ التوب} قابل توبة الراجعين {شَدِيدِ العقاب} على المخالفين {ذِى الطول} ذي الفضل على العارفين أو ذي الغنى عن الكل، وعن ابن عباس: غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله. والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع، والطول الغنى والفضل، فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً والموصوف معرفة؟ قلت: أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية. وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة، فقيل هو بدل.
وقيل: لما وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو في {وَقَابِلِ التوب} لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال: جامع المغفرة والقبول، ورُوي أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان: سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. بسم الله الرحمن الرحيم {حم} إلى قوله {إِلَيْهِ المصير}. وختم الكتاب قال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.
{لآ إله إِلاَّ هُوَ} صفة أيضاً ل {ذِى الطول} ويجوز أن يكون مستأنفاً {إِلَيْهِ المصير} المرجع {مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها، وقد دل على ذلك في قوله {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5] فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها واستنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها فأعظم جهاد في سبيل الله {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد} بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب، ثم بين كيف ذلك فأعلم أن الأمم الذين كذبت قبلهم أهلكت فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} نوحاً {والأحزاب} أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم {مِّن بَعْدِهِمْ} من بعد قوم نوح {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب {بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} ليتمكنوا منه فيقتلوه.
والأخيذ: الأسير {وجادلوا بالباطل} بالكفر {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} ليبطلوا به الإيمان {فَأَخَذَتْهُمْ} مظهر: مكي وحفص يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وبالياء: يعقوب. أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك، وهذا تقرير فيه معنى التعجيب {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} {كلمات رَبكَ} مدني وشامي {أَنَّهُمْ أصحاب النار} في محل الرفع بدل من {كلمة ربك} أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة. أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل و{الذين كَفَرُواْ} قريش، ومعناه كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار، ويلزم الوقف على النار. لأنه لو وصل لصار {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر. رُوي أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي الحديث: «إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة» وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو (يسبح بما لا يسبح به الآخر). {يُسَبِّحُونَ} خبر المبتدأ وهو {الذين} {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي مع حمده إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وفائدته مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17]. فأبان بذلك فضل الإيمان، وقد روعي التناسب في قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}.
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} كأنه قيل: ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس والأماكن {رَبَّنَا} أي يقولون ربنا وهذا المحذوف حال {وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً} والرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، إذ الأصل وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم {واتبعوا سَبِيلَكَ} أي طريق الهدى الذي دعوت إليه {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ} {من} في موضع نصب عطف على (هم) في {وَأَدْخِلْهُمْ} أو في {وَعَدْتَّهُمْ} والمعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم {وأزواجهم وذرياتهم إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي الملك الذي لا يغلب، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً من الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك {وَقِهِمُ السيئات} أي جزاء السيئات وهو عذاب النار {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ} أي رفع العذاب {هُوَ الفوز العظيم}.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ} أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة، والمقت أشد البغض، وانتصاب {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان} بالمقت الأول عند الزمخشري، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم، وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن، وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]، و{إِذْ تَدْعُونَ} تعليل، وقال جامع العلوم وغيره: {إذ} منصوب بفعل مضمر دل عليه {لَمَقْتُ الله} أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ولا ينتصب بالمقت الأول لأن قوله {لَمَقْتُ الله} مبتدأ وهو مصدر وخبره {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ}، فلا يعمل في {إِذْ تَدْعُونَ}؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلق به شيء يكون في صلته لأن الإخبار عنه يؤذن بتمامه، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا {فَتَكْفُرُونَ} فتصرون على الكفر.


{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين، وأراد بالإماتتين خلقهم أمواتاً أولاً وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وصح أن يسمى خلقهم أمواتاً إماتة، كما صح أن يقال: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وليس ثمة نقل من كبر إلى صغر، ولا من صغر إلى كبر، والسبب فيه أن الصغر والكبر جائزان على المصنوع الواحد، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه. وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى في الدنيا، والإحياءة الثانية البعث، ويدل عليه قوله: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. وقيل: الموتة الأولى في الدنيا، والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال، والإحياء الأول إحياؤه في القبر بعد موته للسؤال، والثاني للبعث {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ} من النار. أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلص {مِّن سَبِيلٍ} قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس وإنما يقولون ذلك تحيراً، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} أي ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به {فالحكم للَّهِ} حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد {العلى} شأنه، فلا يرد قضاؤه {الكبير} العظيم سلطانه، فلا يحد جزاؤه، وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذا. وقال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي رضي الله عنه: من هؤلاء؟ قيل: المحكمون. أي يقولون: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل.
{هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته} من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء} وبالتخفيف: مكي وبصري {رِزْقاً} مطراً؛ لأنه سبب الرزق {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ، ثم قال للمنيبين: {فادعوا الله} فاعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} من الشرك {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح} ثلاثة أخبار لقوله هو مرتبة على قوله: {الذى يريكم}. أو أخبار مبتدأ محذوف، ومعنى رفيع الدرجات رافع السماوات بعضها فوق بعض، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة، أو رافع منازلهم في الجنة.
وذو العرش مالك عرشه الذي فوق السماوات خلقه مطافاً للملائكة إظهاراً لعظمته مع استغنائه في مملكته، والروح جبريل عليه السلام، أو الوحي الذي تحيا به القلوب {مِنْ أَمْرِهِ} من أجل أمره أو بأمره {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ} أي الله أو الملقى عليه وهو النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة يعقوب {لّتُنذِرَ} {يَوْمَ التلاق} يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون. {التلاقي}: مكي ويعقوب {يَوْمَ هُم بارزون} ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَئ} أي من أعمالهم وأحوالهم {لّمَنِ الملك اليوم} أي يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه، ثم يجيب نفسه بقوله {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} أي الذي قهر الخلق بالموت، وينتصب {اليوم} بمدلول {لِمَنْ} أي لمن ثبت الملك في هذا اليوم، وقيل: ينادي منادٍ فيقول: لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار.
{اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت عملت في الدنيا من خير وشر، وأن الظلم مأمون منه لأنه ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطيء لأنه لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزفة} أي القيامة سميت بها لأزوفها أي لقربها، ويبدل من يوم الآزفة {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} أي التراقي يعني ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا {كاظمين} ممسكين بحناجرهم. من كظم القربة شد رأسها، وهو حال من القلوب محمول على أصحابها، أو إنما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء {مَا للظالمين} الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} محب مشفق {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي يشفع وهو مجاز عن الطاعة، لأن الطاعة حقيقة لا تكون إلا لمن فوقك، والمراد نفي الشفاعة والطاعة كما في قوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر ***
يريد نفي الضب وانجحاره، وإن احتمل اللفظ انتفاء الطاعة دون الشفاعة، فعن الحسن: والله ما يكون لهم شفيع البتة. {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل {وَمَا تُخْفِى الصدور} وما تسره من أمانة وخيانة، وقيل: هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة، ثم يتفكر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته، والله يعلم ذلك كله ويعلم خائنة الأعين خبر من أخبار هو في قوله: {هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته}.
مثل {يُلْقِى الروح} ولكن يلقي الروح قد علل بقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} فبعد لذلك عن أخواته {والله يَقْضِى بالحق} أي والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَئ} وآلهتهم لا يقضون بشيء، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي. {تَدْعُونَ} نافع {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} تقرير لقوله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور}، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر {أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أي آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} {هم} فصل، وحقه أن يقع بين معرفتين إلا أن أشد منهم ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجري مجراه. {مّنكُمْ}: شامي. {وَءَاثَاراً فِى الأرض} أي حصوناً وقصوراً {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} عاقبهم بسبب ذنوبهم {وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} ولم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.


{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} أي الأخذ بسبب أنهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} قادر على كل شيء {شَدِيدُ العقاب} إذا عاقب. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} التسع {وسلطان مُّبِينٍ} وحجة ظاهرة {إلى فِرْعَوْنَ وهامان وقارون فَقَالُواْ} هو {ساحر كَذَّابٌ} فسموا السلطان المبين سحراً وكذباً {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق} بالنبوة {مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين ءَامَنُواْ مَعَهُ} أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً {واستحيوا نِسَآءَهُمْ} للخدمة {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم!، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيظاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعاً {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لملئه {ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} كان إذا همّ بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك، وما هو إلا ساحر، وإذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أن فرعون قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن كان فيه خب وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس بأنه هو الذي يهدم ملكه؟، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وقوله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله: {ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع {إِنِّى أَخَافُ} إن لم أقتله {أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أن يغير ما أنتم عليه. وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام {أَوْ أَن يُظْهِرَ} موسى {فِى الأرض الفساد} بضم الياء ونصب الدال: مدني وبصري وحفص، وغيرهم بفتح الياء ورفع الدال، والأول أولى لموافقة {يبدل}. والفساد في الأرض التقاتل والتهايج الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ويهلك الناس قتلاً وضياعاً كأنه قال: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه، وقرأ غير أهل الكوفة {وَأَنْ}، ومعناه إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً. {وَقَالَ مُوسَى} لما سمع بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه {إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} وفي قوله {وَرَبِّكُمْ} بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال: {مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ} لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر الاستكبارعن الاذعان للحق وهو أقبح استكبار، وأدل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه، وقال: {لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب}: لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، وعذت ولذت أخوان.
{وعت} بالإدغام: أبو عمرو وحمزة وعلي.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه} قيل: كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً، و{مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} صفة ل {رَجُلٌ}، وقيل: كان إسرائيلياً ومن آل فرعون صلة ليكتم أي يكتم إيمانه من آل فرعون واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل أو حزبيل، والظاهر الأول {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ} لأن يقول وهذا إنكار منه عظيم كأنه قيل: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق؟، وهي قوله {رَبِّىَ الله} وهو ربكم أيضاً لا ربه وحده {وَقَدْ جَآءَكُمْ} الجملة حال {بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} يعني أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسب إليه الربوبية وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ} احتج عليهم بطريق التقسيم فإنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً، فإن يك كاذباً فعليه وبال كذبه ولا يتخطاه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب، ولم يقل (كل الذي يعدكم) مع أنه وعد من نبي صادق القول مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له وليس فيه نفي إصابة الكل، فكأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم وهو العذاب العاجل وفي ذلك هلاككم، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل أيضاً، وتفسير البعض بالكل مزيف {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} مجاوز للحد {كَذَّابٌ} في ادعائه، وهذا أيضاً من باب المجاملة، والمعنى أنه إن كان مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه فتتخلصون منه، أو لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله بالنبوة ولما عضده بالبينات، وقيل: أو هم أنه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون.
{ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين} عالين وهو حال من (كم) في {لَكُمْ} {فِى الأرض} في أرض مصر {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} يعني أن لكم ملك مصر، وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله أي عذابه، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد، وقال: {يَنصُرُنَا} و{جَاءنَا} لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى} أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} طريق الصواب والصلاح، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئاً ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر.
يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة.
{وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} أي مثل أيامهم: لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوله {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار اقتصر على الواحد من الجمع، ودأب هؤلاء دءوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه، ولا بد من حذف مضاف، أي مثل جزاء دأبهم، وانتصاب {مثل} الثاني بأنه عطف بيان ل {مثل} الأول {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب. يعني أن تدميرهم كان عدلاً لأنهم استحقوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] حيث جعل المنفي إرادة ظلم منكّر ومن بعد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد، وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد، لأن أهل اللغة قالوا: إذا قال الرجل لآخر (لا أريد ظلماً لك) معناه لا أريد أن أظلمك، وهذا تخويف بعذاب الدنيا.
ثم خوفهم من عذاب الآخرة بقوله {وياقوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} أي يوم القيامة. {التنادي} مكي ويعقوب في الحالين وإثبات الياء هو الأصل وحذفها حسن لأن الكسرة تدل على الياء وآخر هذه الآي على الدال، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف: {وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الآية: 44]. {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50]. {ونادى أصحاب الأعراف} [الآية: 48]. وقيل: ينادي منادٍ: ألا إن فلانا سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ألا إن فلاناً شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} منحرفين عن موقف الحساب إلى النار {مَالَكُمْ مِنَ الله} من عذاب الله {مِنْ عَاصِمٍ} مانع ودافع {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} مرشد {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} هو يوسف بن يعقوب، وقيل: يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبياً عشرين سنة، وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف إلى زمنه.
وقيل: هو فرعون آخر وبخهم بأن يوسف أتاكم من قبل موسى بالمعجزات {فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ} فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين {حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} حكماً من عند أنفسكم من غير برهان. أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي مثل هذا الإضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب شاك في دينه.

1 | 2